كانت فترة "الحماية" الفرنسية التي عرفها المغرب في العام 1912 مناسبة زمنية خصبة لظهور البيوت والدور المصنوعة من الصفيح في مجالات جغرافية على هامش المدن، وكان قاطنوها من فقراء الأسبان الذين نزحوا إلى المغرب.
هذه المساكن تحولت بعد الاستقلال إلى ملكية فقراء مغاربة يقطنونها، حتى صار كثير من المدن المغربية محاطًا بمدن مماثلة من "قصدير", تؤشر إلى مستوى الفقر والهشاشة الاجتماعية التي صارت تهدد المجتمع المغربي، بل أضحت مدن الصفيح قنابل موقوتة قد يفجرها شباب هذه المناطق في وجه المغرب الآمن الذي يعمل جاهدًا على الحفاظ على أمنه, ومحاربة منابع "الإرهاب" في المجتمع.
الهجرة القروية
الأسباب التي أدت إلى نشوء دور الصفيح وانتشارها في المغرب, تراكمت إلى حد بروز أحياء ومدن صغيرة بكاملها من الصفيح في كثير من المناطق بالمغرب، ولعل السبب الرئيس الظاهر لهذه المعضلة هو"الهجرة القروية" إلى المدن والحواضر، حيث يعتبر أحمد حموش، إعلامي مغربي مهتم بالقضايا الاجتماعية، في حديثه مع "الإسلام اليوم" أن أكبر إشكالية تتسبب في نشوء ما يعرف بظاهرة أحياء الصفيح يكمن في الهجرة من القرى إلى المدن.
ويقول: إن فشل الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن بالمغرب طيلة أكثر من 50 سنة من الاستقلال في تحقيق تنمية بقرى المملكة، تسبب في هجرة مئات آلاف العائلات المغربية إلى الحواضر؛ طلبًا لمستوًى معيشيّ أفضل.
ويوضح حموش أنه في ظل ارتفاع أسعار العقارات ومستوى المعيشة بشكل عام، رأت هذه العائلات اللجوء إلى هوامش المدينة لتستطيع البقاء, ومع توالي السنين، تضخمت هذه المنازل على الهوامش, وصارت تشكل ما يعرف بدور الصفيح، أو كما يطلق عليها المغاربة "الكاريانات".
وبسبب الاكتظاظ الشديد, كما يقول, تنامت هذه "الكاريانات" وتناسلت، خاصة وأن حالة الدار البيضاء تعتبر خير مثال, ففيها أكثر من 30 "كاريان"، أشهرها "كاريان طوما" , الذي خرج منه انتحاريو 16 مايو 2003 ومارس وأبريل 2007.
سياسة إسكان فاشلة
ويعتبر الباحث الاجتماعي الدكتور عبد الرحيم العطري أن دُور ومدن الصفيح, ظهرت نتيجة مركزية لسياسات الفقر والتهميش، فهذه "الأحزمة البئيسة" لم تأت من فراغ، وإنما نتجت عن عدم وضوح الرؤى , وغياب التخطيط العقلاني ، وبذلك تشير ملامحها إلى الإفلاس الواضح للمشروع المغربي المتّبع في ميدان الإسكان وما يرتبط به من انعطافات مجتمعية.
ويختلف العطري مع من يُرجع أسباب الظاهرة إلى الهجرة القروية ويربطها بها فحسب، ويرى أن هذا الربط يتسم أحيانًا بالظلم واختزال كبير لعمق المشكلة، مشيرًا إلى أنه لا أحد يمكن أن ينكر أن لأحياء الصفيح اتصالاً وثيقًا بسيول الهجرة نحو المدن, والتي تنامت بشكل مهول مع بدايات هذا القرن, وتحديدًا في فترات الجفاف، إلا أن هذا, حسب قوله, لا ينفي وجود عوامل أخرى تنأى عن فضاء القرية وتتركز في المدينة ذاتها.
ويلخص العطري, هذه العوامل في ظروف استغلال وتضييق الخناق, الذي يتعرض له الفلاحون الصغار، وما يصادف أيضًا هؤلاء من "عنف المدينة" وغلاء معيشتها وتدني أجورها وأمور أخرى جعلت "القرويين الجدد" فقط، يفضلون العيش المقزم تحت الصفيح، بل حتى "أبناء المدينة" يضطرون للانغمار في دروب أحياء الصفيح.
ويخلص العطري إلى أن هناك أسبابًا أكبر من الهجرة القروية التي يتم إلصاق الظاهرة بها، منها سياسات الإسكان الفاشلة والعناية الاجتماعية , وإهدار المال, وغيرهما.
مشروع بديل
وبسبب صعوبة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية في دور الصفيح المنتشرة في كثير من المدن، ومنها المدن الكبرى مثل الرباط والدار البيضاء ومراكش وفاس ومكناس، توجِّه المغرب منذ 2004 بشكل رسمي إلى محاربة "دُور الصفيح" في 82 مدينة لصالح 277 ألف أسرة.
ويشكل القضاء على حوالي 50 ألف منزل أو كوخ صفحي كل سنة، أحد أبرز الأهداف التي تسعى إليها وزارة الإسكان المغربية منذ انطلاق مشروع "مدن بلا صفيح"، حيث يتم حاليًا هدم 25 ألف مسكن صفيحي فقط, فيما حددت السلطات المعنية مدينة مكناس (وسط المغرب) نموذجًا للمدن المغربية, وغير الموجود بها صفيح في العام 2007، لتنطلق 63 مدينة أخرى سنة 2008 للقيام بنفس العمل بهدف القضاء على دور الصفيح، ويظل هذا الهدف مؤجلاً في مدينة شاسعة وضخمة كالدار البيضاء إلى حدود 2012، باعتبارها أكبر مدينة مغربية تحتضن حوالي450 مدينة صفيح تحيط بالمدينة، يعود بعضها إلى مطلع القرن الماضي، مما يستدعي وقتًا أكبر في محاولة القضاء الكامل عليها، وتوفير مساكن "إسمنتية" مناسبة لقاطنيها.
سياسات محدودة
و يؤكد الإعلامي أحمد حموش لشبكة "الإسلام اليوم" أن سياسة الدولة فيما يخص محاربة دور الصفيح حققت بعض النتائج، إلا أنه ما تزال يتخللها العديد من النواقص, منها غياب مراقبة قطاع العقار بشكل دقيق، حيث سمحت الثغرات الموجودة للقطاع الخاص بتحقيق أرباح خيالية على حساب جيوب الطبقة الوسطى بالذات.
وشكلت دُور ومدن الصفيح بالمغرب البؤرة الجغرافية الرئيسية التي تم توجيه معظم الاتهامات إليها عند حدوث التفجيرات الانتحارية بمدينة الدار البيضاء في مايو 2006 و مارس وأبريل 2007، حيث توجهت أصابع الاتهام إلى شباب يقطنون في "كاريانات" (مدن صفيح) بالمدينة باعتبار أن بعض مقترفيها ينتمون إلى هذه الأماكن.
ويعتبر حموش أن شروط العيش الصحي الكريم تنعدم في مدن الصفيح، و "تنعدم مرافق العمل والدراسة، وبالمقابل ينتشر الجهل والفقر والمخدرات، وهو ما يفسر ارتفاع نسب الجريمة بالمناطق التي تضم دور الصفيح أكثر من غيرها، لدرجة أنه قد غدا كل من ينتمي إلى مدينة صفيحية ما، محطة للشبهة في أعين مخاطبيه، وهناك حالات بهذا المعنى.
ويذهب مراقبون إلى أن مدن الصفيح بالمغرب لا تفرخ سوى عوامل التخلف وسحب البلاد خطوات إلى الوراء،وأنها مناطق تعتبر أحزمة للفقر، بل أحزمة ناسفة يمكن أن تنفجر في أي حين, مما يجعلها تؤثر بشكل جاد على مدى الهشاشة الاجتماعية التي يعاني منها آلاف، بل ملايين، السكان في المغرب
وتحت عنوان:
توفير المساكن الحديثة للفقراء بأسعار رخيصة وعلى دفعات طويلة
المغرب تحارب مدن الصفيح بإحلال مساكن عصرية حتى عام 2010م
الرباط - قنا:
واصل المغرب خطته لمحاربة السكن غير اللائق أو ما يعرف بمدن الصفيح التي يسكنها الفقراء وتشكل احزمة تشوه معظم المدن الرئيسية وتحيط بها كظاهرة بدأت منذ عقود بسبب الجفاف الذي ضرب البلاد في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.
وادى إلى نزوح مئات الآلاف من المناطق الريفية إلى المدن بحثاً عن العمل والسكن بصورة عشوائية في اطراف هذه المدن في منازل من الصفيح والكرتون أو في مبان من الطين أو الحجارة تقام بصورة غير متناسقة وتفرز العديد من الظواهر الاجتماعية السلبية.
وفي اطار الخطة التي يقودها العاهل المغربي محمد السادس منذ توليه العرش يتوقع ان يتحقق عام 2010م هدف استكمال ازالة المدن الصفيحية من كافة ارجاء المغرب واحلال مكانها مساكن عصرية منظمة بها كافة الخدمات لساكني تلك الاكواخ بأسعار رخيصة مع تيسير في دفع اثمانها لسنوات طويلة.
وحسب ما انجز في هذا المجال في العام الماضي فقد تمت ازالة مجموعات من الصفيح في عدد كبير من مدن المغرب الرئيسية والمدن الاصغر.. وبلغ مجموع ما صرف على هذا البرنامج الاسكاني الكبير 17,1 مليار درهم.. حيث تم هدم أكثر من 25 ألفاً من بيوت الصفيح واقامة 17 ألف مسكن في وحدات حديثة تم تسليمها للمستحقين.. وبلغ عدد الأسر التي استفادت من هذا البرنامج 212 ألفاً في 70 مدينة.
وحسب مصادر وزارة الاسكان فإن الخطة التي يقودها ويرعاها العاهل المغربي وضعت ضمن برنامج يراعي تكثيف حركة الانشاء والمباني والعمل على عدم اقامة مدن صفيحية جديدة من خلال تأهيل المناطق الريفية حتى يستقر سكانها مستفيدين من فرص العمل في مشاريع صغيرة ومتوسطة وكذلك مستفيدين من الخدمات الاساسية المتمثلة في الصحة والتعليم والأمن والمياه والكهرباء والمواصلات.
وقالت هذه المصادر انه بجانب ما تقدمه الدولة من ميزانية ثابتة لهذا الغرض فإن هناك مؤسسات دولية تدعم برنامج المغرب في مشاريع الاسكان وهي مركز الامم المتحدة للمستوطنات البشرية وبرنامج الامم المتحدة للتنمية والبنك الدولي والاتحاد الاوروبي والرابطة الدولية للمدن وغيرها.
واشارت هذه المصادر إلى أن هناك معوقات صاحبت تنفيذ هذا البرنامج تتمثل في نقص في المرافق العامة إلى جانب عدم قدرة 15 بالمئة من الاسر المعنية بالاسكان على توفير مدخرات للوفاء بالقسط الاول الذي عادة لا يتجاوز ما يعادل ألف دولار أمريكي.
كما لاحظ المراقبون أن عملية بناء 17 ألف وحدة سكنية في 70 مدينة بالمغرب خلال العام الماضي انعشت حركة العمل وتوفير مئات الفرص للبنائين والنجاريين والحدادين، كما انعشت حركة الاقتصاد والسوق وزيادة الطلب على وسائل البناء المختلفة.
وحسب بعض الإحصائيات الرسمية، فإن الدار البيضاء تضم قرابة 98 ألف أسرة، أي حوالي 500 ألف شخص، بمعنى 12% من سكان الدار البيضاء العاصمة الاقتصادية للمغرب، و36% من مجموع سكان مدن الصفيح في المغرب.
ويظل مشروع "مدن بلا صفيح" مشروعًا طموحًا، إلا أنه تعتريه بعض المشاكل والعيوب, منها وفق مصادر من وزارة الإسكان, عدم مسايرة نسبة القضاء على دور الصفيح مع نسبة المدن الجديدة التي يتم تشييدها، كما أن بعض السكان يتشبثون بالبقاء في بيوتهم الصفيحية، خاصة كبار السن، كما أن هناك من لا يقبل دفع تكاليف المنزل الجديد أو يطالب بالتخفيض منها، مما يعرقل أحيانًا السير الطبيعي لهذه العملية التي دشنها المغرب؛ بغية القضاء على مظاهر السكن غير اللائق بالمغرب.